فصل: الفصل الخامس والسبعون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدهش في المحاضرات (نسخة منقحة)



.الفصل الخامس والسبعون:

أخواني: الخلوة مهر بكر الفكر وسلم معراج الهمة، حريم العزلة مصون من عيب غيث عبث، إذا خلت دار الخلوة عن الصور تفرغ القلب لملاحظة المعاني.
أوحشتني خلواتي ** بك من كل أنيس

وتفردت فعاينتك ** بالغيب جليسي

ودعاني الوجد والحب ** إلى المعنى النفيس

فبدا لي أن مهر الحب ** أنفاس النفوس

فكتبت العهد للحب ** على طرس الرسيس

يا هذا، إذا رُزقت يقظة فصنها في بيت عزلة، فإن أيدي المعاشرة نهابة، احذر معاشرة الجهال فإن الطبع لص، لا تصادقن فاسقًا، فإن من خان أول منعم عليه لا يفي لك، يا أفراخ التوبة لازموا أوكار الخلوة فإن هر الهوى صيود، إياك والتقرب من طرف الوكر والخروج من بيت العزلة حتى يتكامل نبات الخوافي وإلا كنت رزق الصائد، الأنس بالأنس ربق، المخالطة توجب التخليط وأيسر تأثيرها تشتيت الهم.
أقل ما في سقوط الذئب في غنم ** إن لم يصب بعضها أن ينفز الغنم

قطع العلائق أصل الأصول، فرغ لي بيتًا أسكنه، إن الطائر إذا كان زاقًا لم يرسل في كتاب، تأملوا إلى الفرس إذا قدم إلى الماء الصافي كيف يضرب بيديه فيه حتى يتكدر، أتدرون لم؟ لأنه يرى صورة نفسه في الماء الصافي وصورة غيره فيكدره حتى لا تتبين فيه الصور فيتهنى بالشرب، لا يظهر في خلوة المتيقظ إلا الحق، كان أويس يهرب من الناس فيقولون مجنون، وصف الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه حلية حلته فقوي توق عمر وكان في كل عام يسأل عنه أهل اليمن.
ألا أيها الركب اليمانون عرجوا ** علينا فدق أمسى هوانا يمانيا

نسائلكم هل سال نعمان بعدنا ** وحب إلينا بطن نعمان واديا

لما كانت آخر حجة حجها عمر قام على أبي قيس فنادى بأعلى صوته أفيكم أويس؟ للشريف الرضي:
وإني للشوق من بعدهم ** أراعي الجنوب رواحًا ومغدى

وأفرح من نحو أوطانهم ** بغيث يُجلجل برقًا ورعدا

إذا طلع الركب يممتهم ** أحيي الوجوه كهولًا ومُرْدا

وأسألهم عن عقيق الحمى ** وعن أرض نجدٍ ومن حل نجدا

نشدتكم الله فليُخبرنَّ ** من كان أقرب بالرمل عهدا

هل الدار بالجزع مأهولةٌ ** أنار الربيع عليها وأسدى

وهل جلب الغيث أخلاقه ** على محضرٍ من زرود ومبدا

كان أويس يأتي المزابل إذا جاع فأتاها يومًا فنبح عليه كلب فقال يا كلب لا تؤذ من لا يؤذيك، كل مما يليك، وآكل مما يليني فإن دخلت الجنة فأنا خير منك، وإن دخلت النار فأنت خير مني.
ذل الفتى في الحب مكرمة ** وخضوعه لحبيبه شرف

كان الصبيان يرمونه بالحجارة، والعقلاء عند نفوسهم يقولون مجنون والمحبة تنهاه أن يفسر ما استعجم.
أبثهم وجدي وهم بي أعلم ** وأرجو شفائي منهم وهم هم

وكم كدت من شوق أبين من هم ** ويمنعني من ذاك خوفي منهم

وكم عذلوني فيهم غير مرة ** فقلت لهم والله بالصدق أعلم

إذا كان قلبي موثقًا في حبالكم ** وجسمي لديكم كيف أفهم عنكم

فإن شئتم أن تعدلوا فتوصلوا ** إلى أن يعود القلب ثم تكلموا

صاحب أهل الدين وصافهم، واستفد من أخلاقهم وأوصافهم، واسكن معهم بالتأدب في دارهم وإن عاتبوك فاصبر ودارهم، إن لم يكن لك مكنة البذر ولم تطق مراعاة الزرع فقف في رفقة {وإذا حضر القسمة أولوا القُربى} أنت في وقت الغنائم نائم، وقلبك في شهوات البهائم هائم، إن صدقت في طلابهم فانهض وبادر، ولا تستصعب طريقهم. فالمعين قادر. تعرض لمن أعطاهم وسل فمولاك مولاهم، رب كنز وقع به فقير، ورب فضل فاز به صغير، علم الخضر ما خفي على موسى، وكشف لسليمان ما غطي عن داود.
يا هذا، لا تحتقر نفسك فالتائب حبيب، والمنكسر مستقيم، إقرارك بالإفلاس غنى، اعترافك بالخطأ إصابة، تنكيس رأسك بالندم رفعة، عرضت سلعة العبودية في سوق البيع فبذلت الملائكة نقد {ونحن نُسبِّح} فقيل ما تؤثر سكة دراهمكم، فإن عجب الضارب بسرعة الضرب أوجب طمسًا في النقش فقال آدم: ما عندي إلا فلوس إفلاس، نقشها {ربنا ظلمنا أنفسنا} فقيل هذا الذي ينفق على خزانة الخاص، أنين المذنبين أحب إلينا من زجل المسبحين.
واستعذبوا ماء الجفون فعذبوا ** الأسرار حتى درت الآماق

يا معاشر المذنبين إن كان يأجوج الطبع، ومأجوج الهوى، قد عاثوا في أرض قلوبكم {فأعينوني بقوةٍ أجعلْ بينكم وبينهم ردما} اجمعوا لي عزائم قوية تشابه زبر الحديد، وتفكروا في خطاياكم لتثور صعداء الأسف فلا أحتاج أن أقول {انفخوا} شيدوا بنيان العزائم بهجر المألوف، ليستحجر البناء فنستغني أن نفرغ عليه قطرا، هكذا بناء الأولياء قبلكم، فجاء الأعداء {فما استطاعوا أن يظهروه}.
ليس عزمًا ما مرض المرء فيه ** ليس همًا ما عاق عنه الظلام

الجد جد فما تحتمل الطريق الفتور، ضاقت أيام الموسم، فجعجعوا بالإبل كذا أسيد الضبي إذا عوتب في كثرة بكائه يقول: كيف لا أبكي وأنا أموت غدًا؟ والله لا أبكين فإن أدركت بالبكاء خيرا، فمن الله علي وإن كانت الأخرى فما بكائي في جنب ما ألقاه؟ كانت عابدة لا تنام من الليل إلا يسيرًا فعوتبت في ذلك فقالت: كفى بطول الرقدة في القبور رقادا.
أيها العذال لا تعذلوا ** إنما العذل لمن يقبل

وأرى ليلي لا ينقضي ** طال ليلي والهوى أطول

تزوج رباح القيسي امرأة فرأته نائمًا طول الليل فقالت: ليت شعري من غرني بك يا رباح؟
يا عقيق الحمى حمى الله مغناك ** وروى ثراك من مزن دمع

من لصب يشوقه لامح البرق ** فيرتاح قلبه للجزع

يا خليلي ما أنت لي بخليل ** ورفيق إن لم تقف بالربع

هذه طريقهم فأين السالك؟ هذه صفاتهم فأين الطالب؟
هذي المنازل والعقيق ** فأين سلمى والخيام

لم يبق مذ صاحوا النوى ** لميتم فيها مقام

.الفصل السادس والسبعون:

أيها المقصر عن طلب المزاد، كيف تدرك المعالي بغير اجتهاد؟ أين أهل السهر من أهل الرقاد؟ أين الراغبون في الهوى من الزهاد؟ رحل المتيقظون مستظهرين بكثرة الزاد كل جواد لهم يعرف الجواد فساروا فزاروا والكسلان عاد.
للشريف الرضي:
يا قلبِ ما أنت من نجدٍ وساكنِهِ ** خلَّفتَ نجدًا وراء المدلج الساري

أهفو إلى الركب تعلو لي ركائبهم ** من الحمى في أُسَيحاق وإطمار

تفوحُ أرواحُ نجدٍ من ثيابهم ** عند القدوم لقرب العهد بالدار

يا راكبان قفا لي فاقضيا وطري ** وحدثاني عن نجد بأخبار

هل رُوِّضَتْ قاعة الوعساء أم مطرت ** خميلةُ الطاح ذات البان والغاري

أم هل أبيتُ ودارٌ عند كاظمةٍ ** داري وسمّار ذاك الحي سماري

فلم يزالا إلى أن نَمَّ بي نفَسي ** وحدّثَ الركبَ عني مدمعي الجار

لما صفت خلوات الدجى، نودي آذن الوصول أقم فلانًا وأنم فلانًا خرجت بالأسماء الجرائد، وفاز الأحباب بالفوائد، قال أحمد بن أبي الحواري: قلت لامرأتي رابعة وقد قامت من أول الليل قد رأينا أبا سليمان وتعبدنا معه، ما رأينا من يقوم من أول الليل. فقالت: سبحان الله مثلك يقول هذا؟ أما أقوم إذا نوديت. للمتنبي:
تقولين ما في الناس مثلك وامق ** جدي مثل من أحببته تجدي مثلي

ذريني أنل ما لا ينال من العلى ** فصعب العلى في الصعب والسهل

تريدين إدراك المعالي رخيصة ** ولا بد دون الشهد من غبر النحل

لما دارت كؤوس النوم على أفواه العيون، فسكرت بالشراب الألباب فطرحت الأجساد على فراش (يَتَوَقَّى) صاحت فصاحة الحب بالمحب: كل مسكر حرام، فلما نفخ في صور الإيقاظ في أبان {وَيُرْسِلُ الأُخرى} قام أموات النوم وقد رحل سفر الوصال. فلم يروا إلا آثار القرب في مناخ الأحباب وأثا في {تتجافى} ستر القوم قيامهم بالليل فستر جزاءهم أن يطلع عليه الغير {فلا تعلمُ نفسٌ} فلو عانيتهم وقد دارت كؤوس المناجاة بين مزاهر التلاوة فأسكرت قلب الواجد، ورقمت في صحائف الوجبات تعرفهم {بسيماهم}.
وتمشت في مفاصلهم ** كتمشي البرء في السقم

اشتهر بقيام الليل كله، وصلاة الفجر بوضوء العشاء، سعيد بن المسيب وصفوان سليم ومحمد بن المنكدر المدنيون وفضيل ووهب المكيان طاوس ووهب اليمانيان والربيع بن خيثم والحكم الكوفيان وأبو سليمان الداراني وأبو جابر الفارسيان وسليمان التيمي ومالك بن دينار ويزيد الرقاشي وحبيب العجمي ويحيى البكائي وكهمس ورابعة البصريون.
قالت أم عمرو بن المنكدر: يا بني أشتهي أراك نائمًا: فقال يا أماه إن الليل ليرد علي فيهولني فينقضي عني وما قضيت منه مأربي. وصحب رجل رجلًا شهرين فما رآه نائمًا فقال مالك: لا تنام؟ فقال: إن عجائب القرآن أطرن نومي ما أخرج من أعجوبة إلا وقعت في أخرى.
لا تلحه إن كنت من سجرائه ** عذل المحب يزيد في إغرائه

ودع الهوى يقضي عليه بحكمه ** ما شاء فهو مسلم لقضائه

فشقاؤه فيما يراه نعيمه ** ونعيمه في ذاك عين شقائه

كحلت مآقيه بطول سهاده ** وحنت أضالعه على برحائه

دنف ببابل جسمه وفؤاده ** بالخيف واعجبًا لطول بقائه

قال سفيان إن لله ريحًا تسمى الصبحية، مخزونة تحت العرش تهب عند الأسحار فتحمل الأنين والاستغفار.
للمهيار:
يا نسيم الريح من كاظمةٍ ** شد ما هِجت الأسا والبُرحا

الصبا إن كان لابد الصّبا ** إنها كانت لقلبي أروحا

أذكرونا ذكرنا عهدكُمُ ** ربَّ ذكرى قرَّبَت من نزحا

وارحموا صبًّا إذا غنّى بكم ** شربَ الدَّمع وعافَ القدَحا

يا طويل النوم فاتتك مدحة {تتجافى} وحرمت منحة {والمستغفرين} ولست من أهل عتاب فإذا جنة الليل نام عني، ليس في ليل الهجر منام ومتى رأيت محبًا ينام؟ للمتنبي:
فإن نهاري ليلةٌ مدلهمَّةٌ ** على مقلة من فقدكم في غياهب

بعيدةِ ما بين الجفون كأنما ** عقدتم أهالي كلِّ هدبٍ بحاجب

ثورت في الليل الحداة وعكمت أحمال الأعمال وسارت رفقة المتهجدين وترنم كل ذي صوت بشجو، وأنت في الرقدة الأولى بعد.
لم يخل مرجان دمع من عقيق دم ** شوق بلا عبرة ساق بلا قدم

يا هذا، كيف تطبق السهر مع الشبع؟ كيف تزاحم أهل العزائم بمناكب الكسل:
دع الهوى لأناسٍ يعرفون به ** قد مارسوا الحب حتى لان أصعبه

بلوت نفسك فيما لست تخبره ** والشيء صعبٌ على من لا يجربه

فاقن اصطبارًا وإن لم تستطع جلدًا ** فرب مدرك أمر عز مطلبه

أحنو الضلوع على قلب يحيرني ** في كل يوم ويعييني تقلبه

تناوح الريح من نجد يهيجه ** ولا مع البرق من نعمان يطربه